1-في يوم ما ولغرض لا نعلمه قرر الثعلب أن يكون رسّاماً.
وضع قبعةً زرقاء على رأسه، نظارة سوداء على عينيه، وارتدى قميصاً بلون الشمس، أما ذنبه المنقوش فقد تركه يخرج من بنطاله الأحمر الزاهي كعلامة واضحة لثعلبٍ فنان أصيل.
حمل ثعلوب مسند الرسم وعلبة الألوان والفرشاة وتوجّه إلى الحقل. وقف قرب شجرة توت كبيرة بجانب جدول، وثبّتَ مسنده على الأرض وتهيأ للرسم.
2-رأته حمامة من فوق غصنها، اندهشت.. همست، ها.. ما هذا!!؟ ثعلوب بثياب زاهية.. يا ساتر!! ونادته: ماذا تفعل هنا يا ثعلوب؟! هل تبحث عن شيء؟!
والتمعتْ عينا الثعلب فرحاً، وتطلّع إليها، ومع ابتسامة صغيرة قال: أُريد أن أرسمَ، ألا تَرين؟ وهزَّ الفرشاة أمامها..، ثم بلع ريقه وهو يتمتم.. لعلها مغفّلة مثل جدّتها!! وبلهجة ساخرة قالت الحمامة:
وهل تركتَ مهنة الصيد يا ثعلوب.. صيد الطيور؟!! أجل يا حمامة.. وإلى الأبد، كوني على ثقةٍ، لقد تركتُ الصيد إلى غير رجعة، أنا الآن أعيش بفنّي، إنني رسّام يا حمامة..، لذا أرجو أن تنزلي وتقتربي كي أرسمكِ، انزلي وقفي أمامي على غصن قريب، وبعد دقائق سأخلّدكِ بلوحةٍ فنيّة، وستكون صورتك في أعظم متاحف العالم، هيّا انزلي..
قهقهت الحمامة ضاحكة وقالت: حيلة جديدة يا ثعلوب، من أين جئتَ بها؟!
.. من الأفضل أن ترحل وتتركنا مرتاحين فقد انكشفت جميع حيل الثعالب..
ابتعدَ الثعلب عنها حالاً بمسنده دون أن يقطع الأمل وهو يتمنّى أن يكون لـه جناحان كي يعلّمها كيف تسكت.
3-وفي الطريق رأى أرنباً فسال لعابه ووقف متظاهراً بالرسم وهو يتطلّع إليه من وراء المسند.
كان الأرنب مدهوشاً من رؤية الثعلب على هذا الشكل الغريب وقال في نفسه:
يا إلهي!! ما هذا؟! ثعلب بنظارة سوداء، قبعة زرقاء، قميص برتقالي لامع.. بنطال أحمر زاهٍ، غرائب عجائب في هذا الزمان!! عجباً ماذا وراء كلّ ذلك؟!!
ألا تريد أن أرسمك يا أرنوب؟
وماذا أفعل بالصورة يا ثعلوب؟؟
ها.. وهزّ الثعلب رأسه، حسن يا أرنوب، أنها صورة فنيّة لكَ، وستكون في أحد المعارض المعروفة في العالم، وستصبح مشهوراً جداً جَداً..
ها.. ها.. ها.. ثعلوب رسّام!! يا للزمان!! وأطلق الأرنب ضحكة عالية ساخرة ثم ابتعد هارباً.
4- فجأة خرج دبٌّ من وراء شجرة ووقف أمام الثعلب وقال: هيّا ارسمني يا ثعلوب إن كنتَ رسّاماً حقَّاً كما قلتَ للأرنب..
انكمش الثعلب خوفاً، واصفرّ وجهه وهو يحدّث نفسه مرتعشاً: دُبّ، يا للورطة!! يا للمصيبة!!، لم يخطر على بالي دبٌّ أبداً حينما وضعتُ الخطة، ولكن يا أبا الحصين عليك بالخروج من هذا المأزق، من هذه المصيبة، فهو مجرّد دبٍّ ضخم، وفكّر.. والتمعت في رأسه فكرة..
التفت إلى الدب وقال وهو يحاول أن يكون صوته طبيعياً: حسناً يا دبّ..، يا أعظم دبّ في الغابة، يا أجمل دبّ في الغابة والجبال كلها، سأرسم لك أفضل صورة لحيوان مثلك جدير بالتقدير، وسأرسلها إلى أشهر متحف في العالم لتكون من العظماء الخالدين، والثعلب في نفسه يقول، إنّ الدببة تُحبُّ المديح بما يناسب ضخامة جسمها..
وبابتسامة عريضة قال الدبّ: إنك ثعلب لطيف حقّاً، ما أجمل كلامك!! فهو لذيذ مثل العسل..
شكراً يا دبّ، والآن اجلسْ أمامي على صخرة ووجهك متجه إلى الجدول، وسأبدأ برسم ظهرك أولاً ثم انتقل، رويداً.. رُويداً إلى وجهك وصدرك..
جلس الدبُّ كما أراد الثعلب..
والآن سأبدأ بالرسم، فلا تحرك رأسكَ يا دبّ، لا تلتفت إلى الوراء أبداً، بل أبقَ متجهاً إلى الأمام فقط، تنفّسْ قليلاً يا دبّ..، آه.. هذا جيد.. جيد جداً..، بل رائع..، حافظ على هذه الهيئة يا دبّ بلا حركة رجاء.. بِلا كلام..
كان الدبُّ يهزّ رأسه فقط، أما الثعلب فقد كان يهمس مع نفسه "المغفّلُ ينفّذ كلَّ ما أطلبه منه بِلا مناقشة، فقط يهزّ رأسه ويقول نعم".
وبعد أن اطمأن الثعلب، حمل مسنده وابتعد بهدوء على رؤوس أصابع أقدامه تاركاً الدبُّ جالساً يتطلّع أمامه بِلا حركة أو كلمة.. وهو يحلم بصورته في أحد المتاحف المشهورة..
ولا ندري.. ربما بقي الدبّ جالساً إلى الآن منتظراً من الثعلب كلمةً أو إشارةً