التحضر
التحضـــــر
هل تستمر الهجرة من الريف? وهل يظل الإنسان ساعيًا نحو إقامة المدن العملاقة مع كل ما تحدثه من مشاكل اقتصادية واجتماعية? وهل أصبحت الزراعة التي كانت سبب الحضارة البشرية شيئًا من مخلفات الماضي?
عاش الإنسان خلال معظم فترات التاريخ في تجمعات ذات طابع ريفي تعتمد على الجمع والالتقاط أو الصيد أو القنص أو الرعي والزراعة المتنقلة, وذلك قبل أن يظهر أسلوب الحياة الذي يقوم على ممارسة الزراعة الكثيفة المستقرة التي تتطلب الارتباط بالأرض بصفة دائمة, مع رعايتها والمحافظة على خصوبتها, بل وتجديد هذه الخصوبة حين يحتاج الأمر إلى ذلك. وتعتبر هذه المرحلة الأخيرة خطوة ممهدة لظهور المدن والمجتمعات الحضرية بكل تنظيماتها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المترابطة والمتكاملة, والتي بلغت ذروة التماسك والتعقيد بالتحول إلى الصناعة وقيام المجتمع الصناعي في أواخر القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف أساليب الحياة الحضرية عن الزحف الحثيث بسرعة ومثابرة لكي تحل محل أشكال الحياة والإقامة والعمل الأخرى, وإن لم تفلح في القضاء عليها تماما. وتذهب بعض التقديرات – التي يجب أن تؤخذ بكثير من التحفظ والحذر – إلى أن السكان الحضريين أو سكان المدن عام 1800 كانوا لا يزيدون عن 3% من مجموع سكان العالم في ذلك الحين, وأن هذه النسبة ارتفعت عام 1900 – أي بعد قرن كامل – لتصبح 14% من السكان, ثم ارتفعت مرة أخرى لتصبح 30% عام 1950 ثم ارتفعت مرة أخرى لتصبح 47% عام وأن المتوقع أن تصل إلى 60% عام 2030, وهذه كلها مؤشرات على نوع الاتجاه العام الذي يسود المجتمع ككل نحو التحضر, والحياة الحضرية التي تتمثل في المدن التي يزيد عدد سكانها عن المليون نسمة, فضلا عن المدن الأخرى الصغيرة التي قد لا تتوافر فيها كل شروط ومتطلبات الحياة الحضرية, وبخاصة في العالم اللاغربي. والملاحظ على أي حال أن الاتجاه نحو التحضر يتم الآن بمعدلات أعلى في المجتمعات الأقل تطورا عنه في الدول الأكثر تقدما وهو أمر منطقي نظرا لانعدام الخدمات الإنسانية والاجتماعية والصحية في المناطق الريفية من تلك المجتمعات. كذلك يلاحظ أن التزايد السكاني فيما يعرف باسم المدن العملاقة قد توقف نسبيا, على العكس من كل ما كانت تذهب إليه توقعات العلماء. فقد كان من المتوقع أن يرتفع باطراد عدد السكان في بعض هذه المدن مثل نيومكسيكو وكلكتا, بحيث قد يصل إلى ثلاثين أو أربعين مليون نسمة, ولم يتحقق ذلك مما قد يعتبر مؤشرا على أن المستقبل لن يشهد ظهور مزيد من هذه المدن العملاقة, التي كان يخشى أن تسيطر على اتجاهات البناء الحضري في العالم بشكل عام.
تضييق الفجوة
والمهم هنا هو أن العالم يدلف الآن – ومنذ بعض الوقت وبسرعة فائقة – نحو حقبة تاريخية جديدة تسيطر عليها أنماط حديثة من الحياة الحضرية والإقامة والعمل في مدن ذات تكوين خاص يتناسب مع مستجدات الحياة وبخاصة فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي وسهولة عمليات الاتصال والتواصل على نطاق واسع, وبشكل غير مسبوق, ويتأثر سير الحياة والعلاقات فيها باتجاهات العولمة, التي سوف تتيح الفرصة لانتشار الأفكار المتحررة إلى جانب تدفق السلع والخدمات ورءوس الأموال, وأن هذه التأثيرات سوف تنعكس بشكل أو بآخر في المناطق الريفية مما يساعد على تضييق الفجوة بين الريف والحضر. وبذلك قد يمكن القول إن مستقبل المجتمع الإنساني هو بالضرورة (مستقبل حضري) إن صح التعبير وقد بدأت بوادر هذا التغيير تظهر بالفعل في العالم المتقدم وتثير اهتمام بعض المنظمات الدولية حول مدن المستقبل ونوعية الحياة فيها, كما حدث مثلا بالنسبة لمؤتمر جنوا عن (مستقبل المدن الأوربية: دور العلم والتكنولوجيا) الذي أعقبه مؤتمر (المدن في المجتمع الكوكبي: مدن القرن الحادي والعشرين) الذي عقد في الولايات المتحدة, كما كان هذا الاهتمام وراء توجه مجلس الاتصالات في سان دييجو بأمريكا نحو بحث أوضاع ومشكلات مدن المستقبل, وعقد عدد من الندوات والمؤتمرات عام بالتعاون مع وكالة كاليفورنيا لتكنولوجيا المعلومات وبعض الأجهزة الرسمية الأمريكية الأخرى, وكان الهدف الأساسي من هذه المؤتمرات هو تحديد مدلول ومعنى التحضر في مختلف المجتمعات والثقافات ونوع العلاقات والتنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, والأنماط الإيكولوجية والأساليب الثقافية السائدة في المدن في الوقت الحالي, وما ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقات والتنظيمات والأساليب في مدن الغد على مستوى العالم ككل وليس فقط على مستوى الدول الغربية والمجتمعات الصناعية الحديثة, وكذلك البحث عن أسباب تنوع واختلاف هذه التنظيمات في الوقت الحالي, وما قد يطرأ عليها من تغيرات في المستقبل وكيف يمكن الإفادة منها لإثراء الحياة في المجتمع (الكوكبي) المفتوح, وبخاصة فيما يتعلق بتحويل مدن المستقبل إلى مراكز ومناطق لإنتاج المعرفة وتصديرها.
مدينة ما بعد الصناعة
هل تستمر الهجرة من الريف? وهل يظل الإنسان ساعيًا نحو إقامة المدن العملاقة مع كل ما تحدثه من مشاكل اقتصادية واجتماعية? وهل أصبحت الزراعة التي كانت سبب الحضارة البشرية شيئًا من مخلفات الماضي?
عاش الإنسان خلال معظم فترات التاريخ في تجمعات ذات طابع ريفي تعتمد على الجمع والالتقاط أو الصيد أو القنص أو الرعي والزراعة المتنقلة, وذلك قبل أن يظهر أسلوب الحياة الذي يقوم على ممارسة الزراعة الكثيفة المستقرة التي تتطلب الارتباط بالأرض بصفة دائمة, مع رعايتها والمحافظة على خصوبتها, بل وتجديد هذه الخصوبة حين يحتاج الأمر إلى ذلك. وتعتبر هذه المرحلة الأخيرة خطوة ممهدة لظهور المدن والمجتمعات الحضرية بكل تنظيماتها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المترابطة والمتكاملة, والتي بلغت ذروة التماسك والتعقيد بالتحول إلى الصناعة وقيام المجتمع الصناعي في أواخر القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف أساليب الحياة الحضرية عن الزحف الحثيث بسرعة ومثابرة لكي تحل محل أشكال الحياة والإقامة والعمل الأخرى, وإن لم تفلح في القضاء عليها تماما. وتذهب بعض التقديرات – التي يجب أن تؤخذ بكثير من التحفظ والحذر – إلى أن السكان الحضريين أو سكان المدن عام 1800 كانوا لا يزيدون عن 3% من مجموع سكان العالم في ذلك الحين, وأن هذه النسبة ارتفعت عام 1900 – أي بعد قرن كامل – لتصبح 14% من السكان, ثم ارتفعت مرة أخرى لتصبح 30% عام 1950 ثم ارتفعت مرة أخرى لتصبح 47% عام وأن المتوقع أن تصل إلى 60% عام 2030, وهذه كلها مؤشرات على نوع الاتجاه العام الذي يسود المجتمع ككل نحو التحضر, والحياة الحضرية التي تتمثل في المدن التي يزيد عدد سكانها عن المليون نسمة, فضلا عن المدن الأخرى الصغيرة التي قد لا تتوافر فيها كل شروط ومتطلبات الحياة الحضرية, وبخاصة في العالم اللاغربي. والملاحظ على أي حال أن الاتجاه نحو التحضر يتم الآن بمعدلات أعلى في المجتمعات الأقل تطورا عنه في الدول الأكثر تقدما وهو أمر منطقي نظرا لانعدام الخدمات الإنسانية والاجتماعية والصحية في المناطق الريفية من تلك المجتمعات. كذلك يلاحظ أن التزايد السكاني فيما يعرف باسم المدن العملاقة قد توقف نسبيا, على العكس من كل ما كانت تذهب إليه توقعات العلماء. فقد كان من المتوقع أن يرتفع باطراد عدد السكان في بعض هذه المدن مثل نيومكسيكو وكلكتا, بحيث قد يصل إلى ثلاثين أو أربعين مليون نسمة, ولم يتحقق ذلك مما قد يعتبر مؤشرا على أن المستقبل لن يشهد ظهور مزيد من هذه المدن العملاقة, التي كان يخشى أن تسيطر على اتجاهات البناء الحضري في العالم بشكل عام.
تضييق الفجوة
والمهم هنا هو أن العالم يدلف الآن – ومنذ بعض الوقت وبسرعة فائقة – نحو حقبة تاريخية جديدة تسيطر عليها أنماط حديثة من الحياة الحضرية والإقامة والعمل في مدن ذات تكوين خاص يتناسب مع مستجدات الحياة وبخاصة فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي وسهولة عمليات الاتصال والتواصل على نطاق واسع, وبشكل غير مسبوق, ويتأثر سير الحياة والعلاقات فيها باتجاهات العولمة, التي سوف تتيح الفرصة لانتشار الأفكار المتحررة إلى جانب تدفق السلع والخدمات ورءوس الأموال, وأن هذه التأثيرات سوف تنعكس بشكل أو بآخر في المناطق الريفية مما يساعد على تضييق الفجوة بين الريف والحضر. وبذلك قد يمكن القول إن مستقبل المجتمع الإنساني هو بالضرورة (مستقبل حضري) إن صح التعبير وقد بدأت بوادر هذا التغيير تظهر بالفعل في العالم المتقدم وتثير اهتمام بعض المنظمات الدولية حول مدن المستقبل ونوعية الحياة فيها, كما حدث مثلا بالنسبة لمؤتمر جنوا عن (مستقبل المدن الأوربية: دور العلم والتكنولوجيا) الذي أعقبه مؤتمر (المدن في المجتمع الكوكبي: مدن القرن الحادي والعشرين) الذي عقد في الولايات المتحدة, كما كان هذا الاهتمام وراء توجه مجلس الاتصالات في سان دييجو بأمريكا نحو بحث أوضاع ومشكلات مدن المستقبل, وعقد عدد من الندوات والمؤتمرات عام بالتعاون مع وكالة كاليفورنيا لتكنولوجيا المعلومات وبعض الأجهزة الرسمية الأمريكية الأخرى, وكان الهدف الأساسي من هذه المؤتمرات هو تحديد مدلول ومعنى التحضر في مختلف المجتمعات والثقافات ونوع العلاقات والتنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, والأنماط الإيكولوجية والأساليب الثقافية السائدة في المدن في الوقت الحالي, وما ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقات والتنظيمات والأساليب في مدن الغد على مستوى العالم ككل وليس فقط على مستوى الدول الغربية والمجتمعات الصناعية الحديثة, وكذلك البحث عن أسباب تنوع واختلاف هذه التنظيمات في الوقت الحالي, وما قد يطرأ عليها من تغيرات في المستقبل وكيف يمكن الإفادة منها لإثراء الحياة في المجتمع (الكوكبي) المفتوح, وبخاصة فيما يتعلق بتحويل مدن المستقبل إلى مراكز ومناطق لإنتاج المعرفة وتصديرها.
مدينة ما بعد الصناعة